تأكد

«أودين»: أسطورةُ الوحدة 8200 التي وُلدت في فيسبوك… ولا سلطة لها الا داخل الشاشات

رافي برازي

رافي برازي

تعديل ٢ ديسمبر ٢٠٢٥
نشر ٢ ديسمبر ٢٠٢٥
«أودين»: أسطورةُ الوحدة 8200 التي وُلدت في فيسبوك… ولا سلطة لها الا داخل الشاشات

يظهر على فيسبوك حساب يحمل اسم “طارق أودين”، يعرّف صاحبه نفسه كعنصر في الوحدة 8200 الإسرائيلية منذ عام 2014، مستخدماً صورة عسكرية وخطاباً طائفياً–سياسياً يقدّمه وكأنه متصل بمراكز القرار الأمني في إسرائيل. هذا التعريف المزدوج، الذي يجمع بين هوية اجتماعية حساسة وادعاء الانتماء لوحدة استخباراتية من الأكثر سرية في إسرائيل، يثير تساؤلات حول منطقية الرواية المعروضة ومدى اتساقها مع الواقع المعروف عن قرية الغجر، وتجربة الأقليات في الجيش الإسرائيلي، وآليات التجنيد داخل الوحدة 8200.

يستعرض هذا التقرير مكونات الهوية الرقمية التي يقدمها الحساب، ويحلل طبيعة السرديات التي ينشرها، ويقارنها بالمعطيات الموثوقة حول عمل الوحدات الاستخباراتية الإسرائيلية. ويهدف إلى تحديد ما إذا كان صاحب الحساب يمثل مصدراً حقيقياً، أم أنه جزء من موجة شخصيات رقمية مُختلقة ظهرت في الفضاء السوري بعد سقوط نظام الأسد، تُستخدم لإنتاج سرديات عالية التأثير دون أي أساس يمكن التحقق منه.

ما يطرحه الحساب

يقدّم الحساب نفسه باسم “طارق أودين الشمالي”، مستخدماً صورة شخصية بزيّ عسكري تتضمن خلفية مرتبطة بالطيران العسكري. لا تكشف الصفحة عن أي معلومات شخصية يمكن التحقق منها، ولا تحتوي على روابط إلى حياة اجتماعية أو مهنية خارج الرواية التي يسردها صاحب الحساب عن نفسه. هذا النمط من العرض يضع المتلقي أمام هوية جاهزة بصرياً لكنها بلا جذور رقمية واضحة.

Image

ويعتمد الحساب ايضاً على منشورات تُكتب بصيغة خطاب مباشر، تتداخل فيها اللغة العسكرية مع المفردات الدينية والطائفية، وتُصاغ بما يوحي بانتماء صاحب الحساب إلى أجهزة أمنية إسرائيلية وإلى قرية الغجر في الجولان. تتنوع المنشورات بين التعليق على الأحداث السورية الجارية، وإرسال رسائل موجهة إلى جمهور محدد، وتقديم تصريحات تُعرض باعتبارها معلومات أمنية أو عملياتية. وتبرز في النصوص مفردات مثل “الرصد” و“التحييد” و“التمركز”، إضافة إلى أسماء مؤسسات إسرائيلية وشخصيات إسرائيلية مثل "كابتن إيلا" تُذكر في سياق التعاون أو الإشراف.

Image

ورغم كثافة الادعاءات الأمنية، يندر أن يظهر أي تفاعل اجتماعي طبيعي على الصفحة، سواء عبر منشورات شخصية أو شبكة علاقات واضحة أو محتوى يومي يعكس حياة فرد يعيش داخل إسرائيل. يقتصر نشاط الحساب على إنتاج سردية سياسية–أمنية موجّهة، ما يجعله أقرب إلى صفحة وظيفية منه إلى حساب شخصي يمتلك امتداداً رقمياً حقيقياً.

تكشف مراجعة نشاط الحساب أنه ظهر في كانون الثاني/ يناير 2025، عقب سقوط نظام الأسد مباشرة، ليبدأ منذ ذلك الوقت بتبنّي سرديات معارضة للحكومة السورية الجديدة ومناصرِة لمكوّنات محددة داخل المجتمع السوري. كما تظهر أنماط التفاعل أن الغالبية الساحقة من جمهوره هي من السوريين، ولا سيما من فئات المعارضة للحكومة السورية الحالية، ما يضع مضمون الصفحة ضمن سياق موجّه بدقة نحو بيئة سورية مضطربة سياسياً واجتماعياً، وبما يتجاوز إطار الحساب الشخصي إلى وظيفة خطابية واضحة.

Image

نمط التضليل في روايات الحساب

يعتمد الحساب على إنتاج روايات تبدو في ظاهرها مكتملة العناصر، لكنها عند التدقيق لا ترتبط بأي مصادر يمكن العودة إليها. ويظهر هذا الأسلوب بوضوح في مثالين متتالين من منشوراته، الأول حول استهداف شخصية يعرّفها باسم “أبو يمّام” أو “عمر بدر نحّاس”، والثاني حول كاتب يقدّمه باسم “إنزو نوليرياتي”. فكلا المثالين يقدَّمان كحقائق ثابتة، لكنهما لا يظهران في أي سجل معروف أو أرشيف يمكن مقارنته بما يرد في النص.

Image
Image

في رواية “نحاس”، يقدّم الحساب اسماً كاملاً ومعرّفاً رقمياً يُعرض بصيغة تشبه أرقام الملاحقة الجنائية، مع وصف الشخص بأنه “مطلوب دولياً”. وعند البحث في القوائم الدولية المعروفة بالأسماء المُلاحقة، لا يظهر الاسم بأي صيغة، ولا يتطابق المعرف الرقمي مع أي شكل من أشكال الترقيم المستخدم في هذه السجلات. ورغم ذلك، تُبنى الرواية حول عملية “تحييد” ومنسوبة الى حادثة حقيقية، من دون امتداد لها خارج سياق المنشور.

Image
Image

أما في رواية “إنزو نوليرياتي”، فيُقدَّم الاسم بوصفه لمحلل أو كاتب “معروف”، وتُنسب إليه تصريحات حول قدرات الدفاع الجوي الروسي وموقف موسكو من تسليمها للحكومة السورية. لكن الاسم نفسه لا يرتبط بأي وجود صحفي أو بحثي، ولا يظهر كصاحب مقالات أو آراء في المنصات التي تُنشر فيها مثل هذه التحليلات عادة. وتبقى الرواية، مثل سابقتها، مكتملة لغوياً لكنها مضللة.

هاتان الروايتان ليستا استثناءً؛ بل تأتيان ضمن سلسلة منشورات تعتمد على الأسلوب ذاته: تفاصيل دقيقة غير قابلة للإسناد، أسماء غير معروفة أو غير موجودة، ومعطيات تُصاغ بلغة عملياتية تمنح القصة جاذبية أعلى وتزيد من احتمالات التفاعل معها. وبذلك تتكرر البنية نفسها في معظم المحتوى المنشور على الحساب، مع اختلاف الأسماء والوقائع، بينما يبقى الهيكل واحداً: نص يوحي بالاطلاع الحصري، من دون ما يدعمه خارج حدود المنشور نفسه.

عدم اتساق الهوية المعلَنة مع معطيات إدارة الحساب وصورته البصرية

تُظهر بيانات شفافية الصفحة على فيسبوك أنّ الحساب يُدار من لبنان، وهو ما يظهر بشكل مباشر في قسم “الأشخاص الذين يديرون هذه الصفحة”. هذه المعلومة تُنشئ تناقضاً جوهرياً مع الصورة التي يطرحها الحساب عن نفسه بوصفه منتمياً لوحدة عسكرية حساسة في الجيش الإسرائيلي. فمن المستبعد أن المؤسسات الأمنية الإسرائيلية الحساسة، وخصوصاً الوحدات الاستخباراتية المرتبطة بالعمليات الإلكترونية، ان تستخدم حسابات تُدار من خارج إسرائيل، ولا يمكن لأي عنصر فعلي في وحدة 8200 إدارة صفحة عامة من منطقة تُعدها إسرائيل منطقة خصومة مباشرة. هذا التعارض بين الموقع الفعلي والادعاء العسكري هو أول عنصر يشير إلى أن الهوية المقدَّمة لا تتماشى مع ضوابط العمل الأمني الذي يُفترض أنها جزء منه.

Image

تعزز الصورة المستخدمة في الحساب طبيعة الهوية الرقمية المصنوعة. فعند تحليل الصورة باستخدام أداة SightEngine ظهر احتمال بنسبة 86% أنها توليد ذكاء اصطناعي، مع نسبة 84% مرتبطة عملياً بنماذج توليد من نوع GPT-4o. وتظهر في الصورة خصائص بصرية معروفة في الصور المُنشأة رقمياً، مثل الانتظام غير الطبيعي في ملمس الجلد، الإضاءة الموحدة، وحدود القماش غير المتناسقة. 

Image

كما لا يتطابق الزي الظاهر مع أي نمط من أنماط الزي العسكري الإسرائيلي المعروفة، سواء من ناحية الشارات أو نوع القماش أو مكان تثبيت العلامات. وجود رقم “8200” مطبوعاً بهذه الطريقة تحديداً لا ينسجم مع الشكل الرسمي لشعارات الوحدة، ما يشير إلى أن الصورة صُممت لتقليد هوية عسكرية أكثر من كونها توثق شخصاً حقيقياً.

Image
Image

تتجاور هذه العناصر—إدارة الحساب من لبنان، والصورة المولَّدة، والرموز غير المطابقة لأي زي رسمي—لتُنتج معاً هوية رقمية مكتملة داخل حدود الصفحة فقط. فالصورة المصنوعة تمنح مظهراً عسكرياً جاهزاً. وبهذا يصبح الحساب قادراً على تبنّي دور “عنصر استخبارات” دون الحاجة لأي دليل فعلي يدعمه خارج الفضاء الرقمي، إذ يبقى كل ما يقدّمه محصوراً في إطار بصري وسردي لا يتجاوز الصفحة ذاتها.

تفنيد ادعاء الانتساب للوحدة 8200

عند النظر في المعطيات المتوفرة حول وحدة 8200 يتبيّن أن الوحدة تتبع مباشرة لمديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أمان (AMAN) وليست جزءاً من الشاباك كما يدعي الحساب، وهي أكبر وحدات الاستخبارات التقنية في الجيش الإسرائيلي، وتضم آلاف العناصر من نخبة المتفوقين علمياً وتكنولوجياً. الدراسات المستقلة، ومنها تقرير ETH Zürich، تؤكد أنّ آلية الانتقاء تبدأ منذ المرحلة الثانوية عبر برامج موهوبين متقدمة، يليها نظام فرز نفسي-تقني شديد الصرامة، ثم تدريب يمتد لأشهر طويلة داخل قواعد محصّنة، حيث يُختار العناصر بناء على معايير دقيقة تشمل التفوق المعرفي، القدرة التحليلية، والالتزام الأمني العالي.

و تقدّم التقارير الدولية، ومنها رويترز، صورة واضحة عن طبيعة الوحدة 8200 باعتبارها أكبر وأشد وحدات الاستخبارات الإسرائيلية سرّية، والنظير المحلي لوكالات مثل NSA الأميركية وGCHQ البريطانية. تعمل الوحدة في نطاق يشمل اعتراض الإشارات، والهجمات السيبرانية، وتحليل البيانات واسعة النطاق، وعمليات حساسة خارج حدود إسرائيل. ولا تسمح الوحدة لأفرادها بكشف هويتهم أو الظهور بصور شخصية عامة، كما توثّق “الغارديان” في تقريرها الذي أوضح أن مجرّد خطأ تقني كشف هوية قائد الوحدة كان كافياً ليعتبره الجيش “حادثاً أمنياً غير مقبول”.

يزيد التعارض مع الإشارة المستمرة إلى أن صاحب الحساب من قرية الغجر، وهي بلدة ذات وضع قانوني معقد يتداخل فيه الانتماء العائلي بين سوريا ولبنان وإسرائيل. ورغم وجود قسم من سكان الغجر يحملون الجنسية الإسرائيلية بعد احتلال الجولان، إلا أن الارتباط الاجتماعي الممتد عبر حدود تُعدّها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية “مناطق خطورة” يجعل التجنيد لوحدات سيبرانية حساسة أمراً بالغ الصعوبة، نظراً لمعايير الولاء الأمني وتشديد الفحص على الخلفيات العائلية والجغرافية. وبذلك تبدو رواية الانتساب للوحدة 8200 جزءاً من بناء هوية رقمية مزيفة، أكثر منها امتداداً لمسار مهني يمكن التحقق منه في الواقع.

و تكشف الغارديان أن حتى هوية قائد الوحدة 8200 تُعامل كسرّ قومي، ما يوضح حجم السرية التي تحكم هذه المؤسسة. ووفقاً لرويترز، لا يُسمح لعناصر الوحدة بامتلاك حضور علني أو إدارة حسابات تكشف مواقعهم أو هوياتهم أو وجوههم. أمام هذه المعايير، يظهر تناقض واضح في رواية حساب “طارق أودين” الذي يُدار من لبنان ويقدّم صاحبه نفسه كمنتمي إلى قرية الغجر ذات الامتدادات الحدودية المعقدة، وهي عوامل تُعدّ في التقييم الأمني الإسرائيلي موانع أمام الالتحاق بوحدات استخباراتية عالية الحساسية. كما أن استخدامه لصورة مولّدة وخطاب علني مفتوح لا يتوافق مع أي من ضوابط الظهور المفروضة على أفراد 8200، ما يجعل ادعاء الانتساب جزءاً من سردية رقمية لا تتصل بواقع هذه الوحدة.

عندما تتحول الهوية إلى سلاح

تُظهر المعطيات الواردة في هذا التحقيق أن الحساب لا يمثّل هوية حقيقية لشخص يعمل داخل مؤسسة أمنية إسرائيلية، بل يستند إلى بناء رقمي مُفتعل صُمّم لاستثمار رمزية “العنصر الاستخباراتي الإسرائيلي” في بيئة شديدة الحساسية سياسياً واجتماعياً مثل السياق السوري. فإدارة الحساب من لبنان، واعتماد صورة شخصية مولّدة رقمياً، وتبنّي خطاب يجمع بين نبرة طائفية وأخرى أمنية، إضافة إلى سرديات لا يمكن إسنادها لأي مصدر موثوق، كلها مؤشرات تكشف أن الغاية ليست تقديم معلومات، بل إنتاج مصدر وهمي يُستخدم لتمرير رسائل تبدو وكأنها صادرة “من داخل المؤسسات”.

وتضع هذه الخصائص الحساب ضمن فئة من الحسابات التي رصدتها تأكّد خلال المرحلة التي تلت سقوط النظام السابق، والتي لجأت إلى هويات مصطنعة تمنح نفسها أدواراً سياسية أو أمنية بهدف توجيه الرأي العام وإعادة إنتاج الاصطفافات داخل المجتمع. ويبرز في هذه الحسابات نمط متكرر يعتمد على قصص “عمليات سرّية”، و“تحييد أهداف”، وادعاء الاطلاع على مستويات صنع القرار، بما يمنح المحتوى قابلية عالية للانتشار والتفاعل، رغم افتقاره لأي سند يمكن التحقق منه. ومن بين هذه الأمثلة حسابات مثل “بسام حنّا” و“سرمد الطول” التي تعتمد الأسلوب ذاته في بناء صورة مسؤول أمني أو سياسي عبر هويات غير قابلة للتحقق وتفاصيل لا ترتبط بأي مصدر موثوق.

Aa
18

ذو صلة

تأكدAI