انتشر مقطع فيديو يظهر مسلحين يعتدون على أحد المساجد في السويداء عبر صفحة (اللجاة 24) المحلية، وذلك يوم الأربعاء 13 آب/ أغسطس 2025. يبدو في المقطع تجمع عدد من الأشخاص والسيارات حول مسجد في مدينة السويداء، بينما يُصوّر بعضهم المشهد، في وقت تُظهر اللقطات سيارة مُثبت عليها رشاش، تُطلق النار باتجاه المئذنة بشكل متكرر، ما أدى إلى إصابتها وإلحاق أضرار واضحة بجزئها العلوي. وأثار انتشار المقطع جدلًا واسعًا حول هوية المستهدفين وأسباب الاستهداف وتوقيت التصوير.
وعقب انتشار المقطع، تحققت منصة (تأكد) منه وأجرت تحليلاً ومطابقة بصرية توصلت إلى أنه يُظهر اعتداء مسلحين من الدروز على المسجد الكبير في السويداء. وتبيّن أن المقطع صحيح، وبحسب مراسلنا يعود تاريخ الحادثة إلى 17 تموز/ يوليو الماضي، بالتزامن مع الاعتداءات والانتهاكات التي شهدتها المحافظة آنذاك. كما حصلت (تأكد) على لقطات حديثة، تُظهر استمرار وجود رسم علم الاحتلال الإسرائيلي على جدار المسجد.
تبنى أنصار الفصائل المحلية في السويداء رواية تقول أن استهداف مئذنة المسجد جاء بعد تمترس قنّاص بداخلها، ما دفع تلك الفصائل للتعامل مع الموقف في سياق ما وصفوه بعمليات "تمشيط المدينة" وإجبار الجيش السوري والأمن العام على الانسحاب.
ووفق هذه الروايات التي جرى تصديرها، تدخلت مجموعة من شيوخ الطائفة الدرزية ووجهاء وشبان لمنع استهداف المسجد وحمايته، حيث أظهرت مقاطع مصورة متفرقة تأمين شيوخ من الطائفة المسجد وإمامه، مع ترديد عبارات تؤكد على نبذ الطائفية وتعزيز الوحدة بين العشائر العربية وأبناء الطائفة الدرزية، إضافة إلى تعهدات بحماية العشائر "كأهل بلد واحد".
وعند التواصل مع جهات محلية في السويداء، لم يتلقَّ فريق المنصة ردًا دقيقاً حول مصير المسجد أو إمامه، إذ أفادت بعض المصادر أنه لم يتعرض لأذى وما زال موجودًا في السويداء، بينما أشار آخرون إلى أنه غادر المدينة. وأوضحت هذه المصادر أن الفيديو الذي يُظهر عملية الاستهداف ومقطع الشيوخ وهم يؤمّنون المسجد يعود تاريخهما إلى 17 تموز/ يوليو 2025 خلال أحداث السويداء آنذاك.
كما انتشرت بتاريخ 13 آب/ أغسطس 2025 مقاطع أخرى تُظهر المسجد ذاته وقد بدت على مئذنته آثار طلقات نارية، في حين ظهرت رموز إسرائيلية على جدرانه.
توصّلت منصة (تأكّد) إلى أن رواية وجود قنّاص في مئذنة المسجد أو أي عناصر متحصنين داخل مدينة السويداء تفتقر إلى المنطق، إذ يُظهر مقطع الفيديو عناصر الفصائل يتحركون في محيط الموقع بحرية تامة دون أن يتعرضوا لأي استهداف أو يظهر عليهم أي قلق من استهداف أو رد مقابل. كما أن القوات التابعة للحكومة السورية كانت قد انسحبت من المحافظة فجر 17 تموز، وفق ما نقلت الوكالة الفرنسية عن مقاتلين حكوميين على أطراف المحافظة.
وهو ما يؤكده أيضًا ريان معروف، مدير شبكة "السويداء 24"، الذي ذكر في منشور على حسابه الشخصي في فيسبوك عند الساعة 9:36 صباحًا من ذلك اليوم أنه أمضى ساعتين يتجول في شوارع السويداء، دون أن يذكر وجود أي قنّاص أو عناصر متحصنين في المدينة التي كانت خالية تماماً من القوات الحكومية وقوات العشائر.
طرحنا هذا السؤال على صفحة "اللجاة 24" المحلية وهي المصدر الرئيس للمقطع، إذ تواصلنا معها عبر تطبيق المحادثة ماسنجر، وأفادت إدارة الصفحة بأن مرسل الفيديو شخص يدعى "سومر أبو خير"، أرسل لها المقطع متفاخراً بعملية القصف أثناء تصويره الجامع.
وحصلت (تأكد) على لقطات شاشة للرسائل التي بدأ أبو خير إرسالها للصفحة يوم الأربعاء 13 آب/ أغسطس 2025، في تمام الساعة 08:19 صباحاً بتوقيت دمشق.
أرسل أبو خير نصّاً استفزازياً وأتبعه بمقطع الاعتداء على المسجد، وعند محاولة مدير الصفحة تجاهله، رد المرسل بشتمه وتحريضه على نشر المقطع الذي أتبعه بمقطع آخر يوثق عملية تنكيل بجثة أحد القتلى، وتوعد بأن يرسل أيضاً مقاطع مماثلة من حي المقوس الذي كانت تقطنه عشائر السويداء، بخطاب يتسم بالكراهية ويقرّ بارتكاب عمليات اعتداء على ممتلكات العشائر.
وحول هوية المعتدين على المسجد، قالت مصادر محلية شهدت الحادثة قبل تهجيرها من المنطقة؛ إن الحي أُفرغ من سكانه، ولم تبقَ فيه فرصة للتوثيق بالتصوير، نتيجة سيطرة فصائل محلية ذات طابع طائفي، صادرت هواتف الأهالي وممتلكاتهم ومنعتهم من التصوير، محتكرة التوثيق لصالحها. ولفت الشهود إلى أن الفصيل الذي استهدف المئذنة يتبع للمدعو "أشرف جمول"، وأن الرامي على الرشاش يُدعى "غيث القنطار".
وأظهرت مراجعة حساب المدعو "أشرف جمول" نشره العديد من المحتوى الذي يمجّد الاحتلال الإسرائيلي ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو، الذي وصفه في أحد المنشورات بـ "زعيم الشرق الأوسط الجديد"، بينما أثنى في منشورات أخرى على موقف إسرائيل إلى جانب منشورات تمجد حكمت الهجري.
وعلى صفحة جمول، قائد "غرفة عمليات الحسم" والذي يتزعم فصيلاً محلياً يُدعى "فزعة شباب الجبل"، رُصدت مقاطع فيديو تظهر فيها ذات السيارة المزودة بمدفع رشاش، التي استخدمت بالاعتداء على المسجد الكبير، ويشير في هذه المقاطع إلى أشخاص آخرين بينهم "غيث القنطار".
وعند مقارنة نوع السيارة الظاهرة في مقطع الاستهداف ومقاطع منشورة سابقاً على حساب المدعو غيث القنطار، تبيّن التطابق في الطراز واللون الرصاصي، وهي من نوع "تويوتا تندرا" من الطراز الثاني مجهّزة بمدفع رشاش يُعرف محلياً باسم "مضاد هيئة"، ما يشكّل قرينة على هوية الرامي، وإن تعذر تأكيدها نظرًا لعدم وضوح ملامحه في الفيديو.
تعرّف فريق منصة (تأكد) على الشيخ الظاهر في الفيديو المنشور على صفحة "الراصد"، الذي يوثق توفير شيوخ من الطائفة الدرزية الحماية للمسجد وإمامه، وتبيّن أنه الشيخ "فواز المحمد"، إمام مسجد السويداء الكبير. والذي أفاد مصدر مقرّب من عائلته أنه ليس من أبناء محافظة السويداء، بل من ريف دمشق – منطقة البويضة/ خربة الشياب، وأن الاتصال به انقطع منذ 22 تموز/ يوليو 2025.
وبحسب ما ذكره الشيخ محمد البداح، إمام جامع حي المقوس، "كان الشيخ فواز المحمد معتقلًا في مدرسة القنوات لدى الفصائل الدرزية، في الحي الذي يقطن به الشيخ حكمت الهجري طوال هذه الفترة مع زوجته وابنتيه وصهره، قبل أن يُفرج عنه قبل عدة أيام مع الإبقاء على صهره محتجزًا كرهينة". وأوضح البداح أن الشيخ فواز لا يستطيع حاليًا الإدلاء بتصريحات أو تفاصيل حول الواقعة قبل خروج صهره، خشية تعرضه لأذى، مؤكدًا أن "السويداء تخضع اليوم لسيطرة الهجري وفصائله المسلحة التي تمارس سلطة أمر واقع قمعية وترهيبية بحق السكان عمومًا، وأبناء العشائر العربية خصوصًا".
وأضاف الشاهد أنه التقى بالشيخ فواز قبل يومين في منطقة السيدة زينب، حيث يقيم حاليًا مع عائلته في مسقط رأسه البويضة، وعند محاولة التواصل مع الشيخ فواز لم تتلقَّ المنصة أي رد حتى تاريخ إعداد التقرير.
مصدر آخر مقرب من عائلة إمام المسجد الكبير -فضل عدم الكشف عن اسمه-، أكد نبأ اعتقاله بصحبة عدد من أفراد عائلته لدى الفصائل الدرزية وأكد أيضاً نبأ إطلاق سراحه قبل أسبوع مع زوجته وابنتيه، فيما بقي صهره محتجزاً. وهو ما أكده لاحقًا خالد المحمد نجل الإمام فواز المحمد عند تواصلنا معه، لكنه لم يقدّم معلومات إضافية، مشيرًا إلى أنه خارج سوريا في الوقت الحالي.
قال "محمد عقلة البداح"، إمام مسجد عمر بن الخطاب، وهو أحد مساجد الطائفة السنية داخل مدينة السويداء، إن المسجد الذي يؤمه تعرّض أيضًا لاعتداء مماثل، مشيرًا إلى أنه لم يتمكّن من الإعلان عن ذلك لعدم توفر أي توثيق مصوّر. وأضاف أن مسجد الحروبي، الذي يحمل اسم الحي الواقع به، تعرّض أيضًا للتخريب والاستهداف، وأرسل لنا مقطع فيديو صور بتاريخ 16 تموز الماضي مدته ثلاث دقائق يظهر الأضرار التي خلفها الاعتداء. تتحفظ منصة "تأكد" عن عرض المقطع نظرًا لعدم تمكّننا من التحقق من الجهة التي نفذت الاعتداء وتجنّبًا لأي تحريض قد يسببه عرضه.
ولم يتسنَّ لمنصة "تأكد" التحقق من شهادة الإمام وتأكيد وقوع الاعتداء على مسجد عمر بن الخطاب في حي المقوس أو نفيه، إلا أن ما ذكره يمكن مقاطعته مع ما ورد في رسائل سومر أبو خير للصفحة التي نشرت فيديو الاعتداء على المسجد الكبير.
وبحسب البداح، وقع الاعتداء على الجامع الكبير يوم 17 تموز/ يوليو 2025، نافيًا وجود أي قنّاص داخل المئذنة، ومشيراً إلى أن الاستهداف حدث بعد انسحاب الجيش السوري والأمن العام.
ورداً على الرواية التي بررت الاستهداف وروّجت لوجود قناص في المئذنة قال البداح إنه "لو كان هناك قنّاص لما تمكن أي شخص من التواجد في الساحة أو الطريق المحيط بالمسجد"، معتبراً أن حجة "وجود قنّاص" تُستخدم دائمًا لتبرير استهداف المآذن والجوامع في المحافظة. وأن "الاستهداف كان ذا طابع طائفي واحتفالي، جرى بعد خروج قوات الجيش السوري والأمن العام، بهدف إبراز القوة والسيطرة وإهانة أبناء العشائر العربية".
تواصلت منصة (تأكد) مع اللجنة القانونية العليا، التي شكّلتها الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز وتمثل سلطة الأمر الواقع في السويداء، لسماع تعليقها حول الحادثة. وقد زوّدتها المنصة بالمعلومات والشهادات التي جُمعت خلال التحقيق، لإتاحة الفرصة أمامها للرد خلال فترة زمنية محددة تنتهي مع نهاية الدوام الرسمي ليوم الخميس 14 حزيران، مع إبقاء باب الرد مفتوحًا في أي وقت بعد النشر.
وعبر الصفحة الرسمية للمكتب الإعلامي التابع للجنة، وجهت (تأكد) أسئلتها حول موقف اللجنة من الاعتداء على المسجد والتبريرات المتداولة، وردها على الشهادات التي جُمعت بشأن اعتقال إمام المسجد الكبير وأسرته قبل الإفراج عنه، والإبقاء على صهره محتجزًا، بالإضافة إلى موقف اللجنة من استهداف مسجد المقوس.
ورد المكتب الإعلامي بتصريحات تعزز التبريرات نفسها، حيث قال إن تصوير حادثة الجامع على أنها اعتداء هو "تزوير للواقع"، معتبرًا أن الحادثة كانت "اشتباكًا مع قنّاص من الذين هاجموا السويداء وارتكبوا مجازر بحق المدنيين". كما عرض المكتب تزويد المنصة بفيديو حديث يوثّق واقع الجامع مع مزيد من المعلومات، غير أن (تأكد) لم تتسلّم ذلك حتى لحظة نشر هذا التقرير.
تشهد محافظة السويداء منذ سقوط نظام الأسد حالة من التوتر الأمني وتنامي نفوذ الفصائل المحلية المدعومة من الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، وسط اتهامات متبادلة مع أبناء العشائر العربية بارتكاب انتهاكات ذات طابع طائفي أو عشائري. وفي ظل غياب الرقابة الرسمية، برزت حوادث متكررة لاستهداف أماكن دينية، سواء بذريعة وجود قناصة أو بدوافع استعراضية لإبراز السيطرة، في وقت تفرض فيه اللجنة القانونية العليا والفصائل المسلحة سيطرة شبه كاملة على عملية التوثيق الميداني ومنع التصوير إلا عبر قنواتها.
ويجري تداول مقاطع فيديو منذ بداية أحداث السويداء منتصف تموز/ يوليو وحتى اليوم، أي بعد نحو شهر، تثير تساؤلات كبيرة حول توقيت نشرها وغاياتها، خاصة أنها توثق انتهاكات واستهداف أماكن دينية كان آخرها مسجد السويداء الكبير، كما نُشر قبلها بيومين مقطع يُظهر احتراق مقام النبي داوود في قرية المجدل، إضافة إلى مقاطع فيديو وثقت اقتحام قوات تتبع للسلطة السورية المشفى الوطني في السويداء وتنفيذها إعداماً ميدانياً بحق المهندس محمد بحصاص الذي كان متطوعاً مع الكادر الطبي.
هذه الأنماط من النشر المؤخر تعزز فرضية وجود أيدٍ تتحكم بالعملية الإعلامية وتوظفها للتحريض وإعادة إنتاج التوتر، بما يخدم مصالح جهات تتحكم بالسردية الميدانية وتمنع وصول روايات محايدة أو شاملة.