
هل قرار مجلس النواب الأمريكي لم يُلغ قانون قيصر بل علّق العقوبات بشكل مشروط؟
نشر صفحات في فيسبوك ادعاءً مفاده بأن قرار مجلس النواب الأمريكي ليس إلغاء وإنما رفع مشروط وستعود عند عدم تنفيذ بنود، إلا أن الادعاء مضلل.



يشكل تصويت الكونغرس على إلغاء قانون قيصر، الذي استهدف الاقتصاد السوري لأكثر من ست سنوات خلال حكم نظام الأسد، حدثاً فارقاً في مسار التنمية الاقتصادية السورية، إلا أن القانون تضمن مجموعة من الشروط التي أثير الجدل حول مدى إلزاميتها.
وفي سياق الحد من الجدل الدائر حول الإلزامية الشروط، يأتي التقرير في قراءة تفاصيل القانون و تبيان ما إذا كان يلزم الدولة السورية في تنفيذ الشروط الموضوعة أم أن سيوف العقوبات الاقتصادية ستُسلط مجدداً على هيكل الاقتصاد السوري المنهك؟
ينص التشريع في مسودة قانون الدفاع الوطني (NDAA 2026) على إلغاء "قانون قيصر" كلياً، إذ استخدمت عبارة صياغة قانونية تُنهي العمل بالقانون بشكل كامل وفوري، وهو ما يختلف جذرياً من الناحية التشريعية عن مصطلحات "التعليق" أو "التجميد" التي تُبقي القانون سارياً مع وقف التنفيذ؛ وبناءً على ذلك، فإن هذا النص يُزيل الأساس القانوني لأي عقوبات ثانوية كانت مفروضة بموجب قانون قيصر، مما يعيد التكييف القانوني للعلاقة إلى مرحلة ما قبل إقراره.
وفي سياق متصل بآلية العقوبات، تُظهر صياغة الفقرة (d)(1) تحولاً من الإلزام إلى التخيير، إذ يستخدم النص فعل "قد" بدلاً من "يجب". يمنح هذا التعبير الرئيس الأميركي سلطة تقديرية كاملة للامتناع عن فرض عقوبات حتى في حال ذكر التقرير عدم تحقق الشروط، مما ينفي قانونياً صفة "الإلزام التلقائي" عن الشروط الثمانية، ويحولها من مسببات للعقوبة إلى مجرد معايير للتقييم السياسي لا تستوجب رداً عقابياً فورياً.
علاوة على ذلك، يضع النص حواجز إجرائية تمنع أي تحرك عقابي سريع، إذ تشترط الفقرة ذاتها مرور "فترتين متتاليتين للتقارير" دون تحقيق الشروط؛ قبل أن يمتلك الرئيس الصلاحية للنظر في أي إجراءات. وبما أن مدة إجراء كل تقرير محدد بـ 180 يوماً، فإن القانون يفرض عملياً "فترة تحقق" إلزامية مدتها سنة كاملة كحد أدنى قبل أي إجراء، ما يعني عدم وجود أي آلية للتطبيق الفوري أو المفاجئ للعقوبات "سناب باك".
أخيراً، وبالتوازي مع هذه الإجراءات، توفر الفقرة (d)(2) حصانة دائمة للنشاط التجاري من خلال نص صريح يمنع شمول "استيراد البضائع" بأي عقوبات مستقبلية محتملة. إذ يُعرف القانون "البضائع" تعريفاً واسعاً يشمل المواد الطبيعية والمصنعة والمعدات، فإن هذا الاستثناء يُخرج عمليات الاستيراد والتصدير من دائرة المخاطر السياسية بشكل نهائي، مما يثبت أن الاقتصاد السوري الذي يؤثر على حياة المواطنين فصل قانونياً عن مسار التقارير السياسية التي تستهدف مدى تطبيق السلطة السورية لهذه الشروط.
ضمن مراسلة عبر البريد الإلكتروني، صرح لمنصة (تأكد) مصدر في مكتب السيناتور الأميركي ومسؤول العلاقات الخارجية للكونغرس "جيم ريش"، مفسراً الإطار السياسي للقرار بعيداً عن الجدل القانوني، حيث وصف المصدر الخطوة التشريعية بأنها "إلغاء نظيف لقانون قيصر". يحمل هذا التوصيف دلالة سياسية عميقة تنفي أي احتمالات بأن يكون الإجراء مجرد تجميد مؤقت أو تعليق مشروط للعقوبات؛ إذ يعني مصطلح "الإلغاء النظيف" في التشريع الأميركي محو الأثر القانوني للقرارات السابقة بشكل كامل ونهائي، مما يؤسس لمرحلة جديدة لا تستند في مرجعيتها إلى قانون قيصر، ويغلق الباب أمام أي تفسيرات تسعى للعودة إلى القانون مستقبلاً.
وفي سياق توضيح الوظيفة الحقيقية للشروط الجديدة التي أثارت المخاوف، بيّن المصدر أن النص يتضمن بالفعل "متطلبات موسعة للرصد والمراقبة"، إلا أن القانون "لا يتضمن آلية تلقائية لإعادة فرض العقوبات". و بهذا التمييز تُنقل الشروط المرفقة من خانة "أدوات العقاب" إلى خانة "أدوات الرصد"، مؤكداً أن الكونغرس تخلى عن فكرة "السناب باك" التي توجب العقوبة فور حدوث أي خلل، واستبدلها بآلية رقابة سياسية تهدف لإبقاء سوريا "على المسار الصحيح" وفق تعبيره، دون أن يكون هناك تهديد دائم بانفجار عقوبات مفاجئ يعطل الحركة الاقتصادية.
و تماشياً مع الاستراتيجية الأميركية حول سوريا ما بعد سقوط الأسد، ربط المصدر هذا التحول التشريعي بشكل مباشر مع توجهات البيت الأبيض، مؤكداً أن القرار يأتي "تماشياً مع رغبة الرئيس ترامب في إزالة جميع العقوبات". إذ يوجد توافق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لإنهاء حقبة العزلة الاقتصادية المفروضة، ويوضح أن إزالة العقوبات هي جزء من استراتيجية رئاسية شاملة تهدف إلى طي الصفحة القديمة كلياً، مما يمنح القرار قوة دفع سياسية تحصنه من أي محاولات مستقبلية للعودة إلى القانون، من أطراف سياسية داخل أروقة السياسة الأميركية.
واختتم المصدر تصريحاته برسم المعالم النهائية لهذه الاستراتيجية، مشيراً إلى أن الهدف هو منح فرصة لبدء "فصل جديد لسوريا آمنة ومستقرة ومزدهرة". إذ تنظر الولايات المتحدة إلى تعافي الاقتصاد السوري كضرورة حتمية لتحقيق الاستقرار وليست مكافأة يمكن حجبها؛ وهو ما يتوافق مع النص القانوني للقرار الذي يؤكد على حماية حركة التجارة والاستثمار، معيداً الانفتاح الاقتصادي كوسيلة لتحقيق الأمن المستدام، وليس نقيضاً له.
يؤسس النص التشريعي الجديد لتحول في هوية الجهات المستهدفة بالعقوبات، حيث ينقل المشرع الأميركي استراتيجية الضغط من منطق "العقوبات القطاعية" التي استهدفت في عهد الأسد مفاصل الدولة والبنك المركزي والاقتصاد الكلي، إلى منطق "العقوبات الجراحية" الموجهة بدقة نحو منتهكي الشروط.
فوفقاً للنص الجديد، وفي حال قرر الرئيس الأميركي اللجوء نظرياً إلى خيار العقوبات، بعد استنفاد المهل الزمنية واستناداً إلى تقارير تثبت عدم الالتزام، فإن القانون يحصر صلاحيته في فرض عقوبات تستهدف أفراداً محددين ومسؤولين عن ممارسات بعينها، مستثنياً بشكل كلي وكامل -بموجب فقرة استثناء البضائع- المؤسسات العامة، والقطاعات الحيوية، وحركة التجارة والاستيراد. إذ ينهي عملياً حقبة "العقاب الجماعي" الموجه للاقتصاد السوري، ويحول العقوبات -مستقبلاً إن وقعت- إلى إجراءات انضباطية موجهة لا تعيق الدورة الاقتصادية العامة أو مشاريع التعافي والتنمية.
وبحسب مركز "كارتر"، فإن استراتيجية "تحرير الاقتصاد وحصار الأفراد" طُبقت بنجاح في دولتي ميانمار وليبيريا، حيث استُبدلت العقوبات الشاملة بإجراءات جراحية دقيقة لإنعاش الدولة دون إفلات المعرقلين من العقاب. ففي تجربة ميانمار (2012-2016)، أصدرت واشنطن "رخصاً عامة" سمحت بفتح قطاعات التجارة والمصارف لتعزيز التنمية، بينما أبقت العقوبات مسلطة حصراً على قائمة محددة من الجنرالات ورجال الأعمال مثل شبكة شركات "ستيفن لو". وبالمثل، شهدت ليبيريا تحولاً جذرياً حين رفع مجلس الأمن والولايات المتحدة العقوبات القطاعية الخانقة عن تجارة الأخشاب والماس للسماح للدولة بإعادة بناء مواردها، مع الإبقاء على عقوبات صارمة من نوع "تجميد الأصول وحظر السفر" ضد الرئيس السابق تشارلز تايلور ودائرته الضيقة لمنعهم من تقويض السلام.
أما على الصعيد السياسي، فإن آلية "التقارير الدورية" في قانون شطب العقوبات تعتبر استنساخاً لـ"خطة المسارات الخمسة" التي اعتُمدت مع السودان عام 2017، وحولت العقوبات من أداة عقاب أبدي إلى أداة تحفيز مشروط. فبدلاً من المطالبة بتغيير شكل السلطة فوراً، وضعت واشنطن الخرطوم تحت "فترة اختبار" لمراقبة تعاونها في ملفات محددة كمكافحة الإرهاب، وبمجرد إثبات التعاون عبر التقارير، أصدرت الإدارة قرارات بالإلغاء الرسمي للأوامر التنفيذية الاقتصادية (13067 و13412). إذ إن الشروط والتقارير الأميركية ليست فخاً لإعادة العقوبات، بل هي السلم الإجرائي المعتمد قانونياً لتبرير قرار "الإلغاء النظيف" للعقوبات الشاملة أمام المؤسسات التشريعية، مع الاحتفاظ بالقدرة على استخدام العقوبات الفردية المحدودة كضمانة سياسية.
في المحصلة، لا يمكن قراءة المشروع في مسودة قانون الدفاع الوطني الأميركي كمجرد إجراء تشريعي لإلغاء عقوبات، بل هو نتاج حصيلة تاريخية متراكمة للسياسة الخارجية الأميركية، تعكس نضجاً في آليات الضغط، وانتقالاً مدروساً من استراتيجية "عقاب الشعوب" المدمرة للاقتصاد الكلي، إلى استراتيجية "عقاب الشخصيات" عبر المراقبة. فاستبدل عقوبات قيصر الجماعية بمنظومة من آليات الرصد والمتابعة، وحوّل "الشروط الثمانية" من قيود ملزمة تستوجب العقاب الفوري، إلى مجرد مؤشرات قياس لضبط إيقاع العملية الانتقالية، مع تحصين هذا المسار قانونياً عبر إلغاء "آلية العودة التلقائية"، لمنع أي انتكاسة تعيد القانون ليفرض سلطته الجائرة على مسار التنمية السوري.
وبقراءة جدلية في تفاصيل هذه الشروط، نجد أننا أمام معادلة دقيقة تختبر مدى قابلية التنفيذ مقابل فرض النفوذ. فبينما تبدو شروط "محاربة داعش" تقاطعاً لمصالح مشتركة يسهل تحقيقها، فإن الشروط المتعلقة بـ"أمن إسرائيل" و"اتفاق قسد" تثير التساؤل الجوهري: هل نحن أمام خارطة طريق لانتقال سياسي سلس، أم إعادة إنتاج الهيمنة الأميركية بأدوات ناعمة؟ الإجابة تكمن في أن القانون ينهي "الهيمنة الاقتصادية بالحصار"، لكنه قد يؤسس لـ"هيمنة سياسية مشروطة"؛ حيث يُقدم "الازدهار الاقتصادي" المستدام في مقابل انضباطٍ سياسي لشخصيات بعينها، مما يضع الدولة السورية أمام اختبار الموازنة بين استعادة عافيتها الاقتصادية والحفاظ على هوامش سيادتها السياسية تحت سقف هذه الشروط الرقابية.